الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال ابن عطية في الآيات السابقة: ثم أخبر تعالى: {إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم}،فروي أنه لما نزلت هذه قالت قريش: إن كانت ثم جنات نعيم، فلنا فيها أكبر الحظ، فنزلت: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين}، وهذا على جهة التوقيف والتوبيخ. وقوله تعالى: {ما لكم} توبيخ آخر ابتداء وخبر جملة منحازة، وقوله تعالى: {كيف تحكمون} جملة منحازة كذلك، و{كيف} في موضع نصب ب {تحكمون}، وقوله تعالى: {أم} هي المقدرة ببل وألف الاستفهام، و: {كتاب} معناه: منزل من عند الله، وقوله تعالى: {إن لكم فيه لما تخيرون}. قال بعض المتأولين: هذا استئناف قول على معنى: إن كان لكم كتاب، فلكم فيه متخير، وقال آخرون: {إن} معمولة ل {تدرسون}، أي تدرسون في الكتاب إن لكم ما تختارون من النعيم، وكسرت الألف من {إن} لدخول اللام في الخبر، وهي في معنى: (إن) بفتح الألف. وقرأ طلحة والضحاك: {أن لكم} بفتح الألف. وقرأ الأعرج {أأن لكم فيه} على الاستفهام.قوله تعالى: {أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة} مخاطبة للكفار، كأنه يقول: هل أقسمنا لكم قسما فهو عهد لكم بأنا ننعمكم في يوم القيامة وما بعده؟ وقرأ جمهور {الناس} بالرفع على الصفة لـ: {أيمان}، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {بالغة} بالنصب على الحال وهي حال من النكرة، لأنها نكرة مخصصة بقوله: {علينا}، وقرأ الأعرج: {أإن لكم لما تحكمون} وكذلك في التي تقدمت في قوله: {أإن لكم فيه لما تخيرون}، ثم أمر تعالى نبيه محمدا على وجه إقامة الحجة، أن يسألهم عن الزعيم لهم بذلك من هو؟ والزعيم: الضامن للأمر والقائم به، ثم وقفهم على أمر الشركاء، عسى أن يظنوا أنهم ينفعونهم في شيء من هذا. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مسعود: {أم لهم شركاء فليأتوا بشِركهم} بكسر الشين دون ألف، والمراد بذلك على القراءتين الأصنام، وقوله تعالى: {فليأتوا بشركائهم} قيل هو استدعاء وتوقيف في الدنيا، أي ليحضروهم حتى يرى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا، وقيل هو استدعاء وتوقيف على أن يأتوا بهم يوم القيامة، {يوم يكشف عن ساق}. وقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق}، قال مجاهد: هي أول ساعة من يوم القيامة، وهي أفظعها، وتظاهر حديث من النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه ينادي مناد يوم القيامة ليتبع كل أحد ما كان يعبد»، قال: «فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، وكذلك كل عابد لكل معبود ثم تبقى هذه الأمة وغبرات أهل الكتاب، معهم منافقوهم وكثير من الكفرة، فيقال لهم: ما شأنكم لم تقفون، وقد ذهب الناس فيقولون ننتظر ربنا فيجيئهم الله تعالى في غير الصورة التي عرفوه بها، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، قال فيقول: أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون: نعم، فيكشف لهم عن ساق، فيقولون: نعم أنت ربنا، ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا، فلا يستطيعون سجودا».قال القاضي أبو محمد: هكذا هو الحديث وإن اختلفت منه ألفاظ بزيادة ونقصان، وعلى كل وجه فما ذكر فيه من كشف الساق وما في الآية من ذلك، فإنما هو عبارة عن شدة الهول وعظم القدرة التي يرى الله تعالى ذلك اليوم حتى يقع العلم أن تلك القدرة إنما هي لله تعالى وحده، ومن هذا المعنى قول الشاعر في صفة الحرب جد طرفة: مجزوء الكامل:ومنه قول الراجز: الرجز: وقول الآخر: الرجز: وأصل ذلك أنه من أراد الجد في أمر يحاوله فإنه يكشف عن ساقه تشميرا وجدا، وقد مدح الشعراء بهذا المعنى فمنه قول دريد: الطويل: وعلى هذا من إرادة الجد والتشمير في طاعة الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه». وقرأ جمهور الناس: {يُكشف عن ساق} بضم الياء على بناء الفعل للمفعول، وقرأ ابن مسعود: {يكشِف} بفتح الياء وكسر الشين على معنى يكشف الله، وقرأ ابن عباس: {تُكشف} بضم التاء على معنى تكشف القيامة والشدة والحال الحاضرة، وقرأ ابن عباس أيضا: {تكشف} بفتح التاء على أن القيامة هي الكاشفة، وحكى الأخفش عنه أنه قرأ: {نكشِف} بالنون مفتوحة وكسر الشين، ورويت عن ابن مسعود. وقوله تعالى: {ويدعون} ظاهره أن ثم دعاء إلى السجود، وهذا يرده ما قد تقرر في الشرع من أن الآخرة ليست بدار عمل وأنها لا تكليف فيها، فإذا كان هذا فإنما الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين فيريدون هم أن يسجدوا عند ذلك فلا يستطيعونه. وقد ذهب بعض العلماء إلى أنهم يدعون إلى السجود على جهة التوبيخ، وخرج بعض الناس من قوله: {فلا يستطيعون} أنهم كانوا يستطيعونه قبل ذلك، وذلك غير لازم. وعقيدة الأشعري: أن الاستطاعة إنما تكون مع التلبس بالفعل لما قبله، وهذا القدر كاف من هذه المسألة هاهنا. و: {خاشعة} نصب على الحال وجوارحهم كلها خاشعة، أي ذليلة ولكنه خص الأبصار بالذكر لأن الخشوع فيها أبين منه في كل جارحة. وقوله تعالى: {ترهقهم ذلة} أي تزعج نفوسهم وتظهر عليهم ظهورا يخزيهم، وقوله تعالى: {وقد كانوا يدعون إلى السجود} يريد في دار الدنيا وهم سالمون مما نال عظام ظهورهم من الاتصال والعتو، وقال بعض المتأولين: {السجود} هنا عبارة عن جميع الطاعات، وخص {السجود} بالذكر من حيث هو عظم الطاعات، ومن حيث به وقع امتحانهم في الآخرة، وقال إبراهيم التيمي والشعبي: أراد ب {السجود} الصلوات المكتوبة، وقال ابن جبير: المعنى كانوا يسمعون النداء للصلاة: وحي على الفلاح فلا يجيبون، وفلج الربيع بن خيثم:فكان يهادي بين رجلين إلى المسجد، فقيل له: إنك لمعذور، فقال: من سمع حي على الفلاح، فليجب ولو حبوا، وقيل لابن المسيب: إن طارقا يريد قتلك فاجلس في بيتك، فقال: أسمع حي على الفلاح فلا أجيب؟ والله لا فعلت. وهذا كله قريب بعضه من بعض، وقوله تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث} وعيد ولم يكن ثم مانع، ولكنه كما تقول: دعني مع فلان، أي سأعاقبه، {ومن} في موضع نصب عطفا على الضمير في: {ذرني} أو نصبا على المفعول معه، و{الحديث} المشار إليه هو القرآن المخبر بهذه الغيوب، والاستدراج هو: الحمل من رتبة إلى رتبة، حتى يصير المحمول إلى شر وإنما يستعمل الاستدراج في الشر، وهو مأخوذ من الدرج، قال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم، ويمنعون الشكر، وقال غيره: كلما زادوا ذنبا زادوا نعمة، وفي معنى الاستدراج قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» وقال الحسن: كم من مستدرج بالإحسان إليه ومغرور بالستر عليه. {وأملي لهم} معناه: أؤخرهم ملاوة من الزمن، وهي البرهة والقطعة، يقال: مُلاوة: بضم الميم وبفتحها وبكسرها، والكيد: عبارة عن العقوبة التي تحل بالكفار من حيث هي: على كيد منهم، فسمى العقوبة باسم الذنب، والمتين: القوي الذي له متانة، ومنه المتن الظهر.{أمْ تسْألُهُمْ أجْرا فهُمْ مِنْ مغْرمٍ مُثْقلُون (46)}هذه {أم} التي تتضمن الإضراب عن الكلام الأول لا على جهة الرفض له، لكن على جهة الترك والإقبال على سواه، وهذا التوقيف لمحمد صلى الله عليه وسلم، والمراد به توبيخ الكفار لأنه لو سألهم أجرا فأثقلهم غرم ذلك لكان لهم بعض العذر في إعراضهم وقرارهم، وقوله تعالى: {أم عندهم الغيب فهم يكتبون} معناه: هل لهم علم بما يكون فيدعون مع ذلك أن الأمر على اختيارهم جار، ثم أمر تعالى نبيه بالصبر لحكمه، وأن يمضي لما أمر به من التبليغ واحتمال الأذى والمشقة، ونهى عن الضجر والعجلة التي وقع فيها يونس صلى الله عليه وسلم، ثم اقتضبت القصة، وذكر ما وقع في آخرها من ندائه من بطن الحوت {وهو مكظوم}، أي غيظه في صدره. وحقيقة الكظم: هو الغيظ والحزن والندم فحمل المكظوم عليه تجوزا، وهو في الحقيقة كاظم، ونحو هذا قول ذي الرمة: البسيط: وقال النقاش: المكظوم، الذي أخذ بكظمه وهو مجاري القلب، ومنه سميت الكاظمة وهي القناة في جوف الأرض. وقرأ جمهور الناس: {لولا أن تداركه} أسند الفعل دون علامة تأنيث، لأن تأنيث النعمة غير حقيقي وقرأ أبيّ بن كعب وابن مسعود وابن عباس: {تداركته} على إظهار العلامة، وقرأ ابن هرمز والحسن: {تدّاركه} بشد الدال على معنى: تتداركه وهي حكاية حال تام، فلذلك جاء الفعل مستقبلا بمعنى: {لولا أن}، يقال فيه تتداركه نعمة من ربه ونحوه، قوله تعالى: {فوجد فيها رجلين يقتتلان} فهذا وجه القراءة، ثم أدغمت التاء في الدال، والنعمة: هي الصفح والتوب، والاجتباء: الذي سبق له عنده، والعراء: الأرض الواسعة التي ليس فيها شيء يوارى من بناء ولا نبات ولا غيره من جبل ونحوه، ومنه قول الشاعر أبو الخراش الهذلي: الكامل: وقد نبذ يونس عليه السلام {بالعراء} ولكن غير مذموم، و{واجتباه} معناه: اختاره واصطفاه. ثم أخبر تعالى نبيه بحال نظر الكفار إليهم، وأنهم يكادون من الغيظ والعداوة، يزلقونه فيذهبون قدمه من مكانها ويسقطونه. وقرأ جمهور القراء: {يُزلقونك} بضم الياء من أزلق، وقرأ نافع وحده: {يزلقونك}. بفتح الياء من زلقت الرجل، يقال: زلِق الرجل بكسر اللام وزلقته بفتحها مثل: حزن وحزنته وشترت العين بكسر التاء وشترتها، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {ليزهقونك} بالهاء، وروى النخعي أن في قراءة ابن مسعود: {لينفدونك}، وفي هذا المعنى الذي في نظرهم من الغيظ والعداوة قول الشاعر: الكامل: وذهب قوم من المفسرين إلى أن المعنى: يأخذونك بالعين، وذكر أن الدفع بالعين كان في بني أسد، قال ابن الكلبي: كان رجل يتجوع ثلاثة أيام لا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين، فسأله الكفار أن يصيب النبي عليه السلام، فأجابهم إلى ذلك، ولكن عصم الله تعالى نبيه، قال الزجاج: كانت العرب إذا أراد أحدهم أن يعتان شيئا، تجوع ثلاثة أيام، وقال الحسن: دواء من أصابه العين أن يقرأ هذه الآية، و{الذكر} في الآية القرآن، ثم قرر تعالى أن هذا القرآن العزيز {ذكر للعالمين} من الجن والإنس، ووعظ لهم وحجة عليهم، فالحمد لله الذي أنعم علينا به وجعلنا أهله وحماته لا رب غيره.نجز تفسير سورة {ن والقلم} بحمد الله تعالى وعونه وصلى الله على محمد وآله وسلم. اهـ. .قال أبو السعود في الآيات السابقة: {إِنّ لّلْمُتّقِين} أي من الكفرِ والمعاصِي {عِند ربّهِمْ} أي في الآخرةِ أو في جوارِ القُدسِ {جنات النعيم} جناتٍ ليس فيها إلا التنعمُ الخالصُ عن شائبةِ ما يُنغّصهُ من الكدوراتِ وخوفِ الزوالِ كما عليهِ نعيمُ الدُّنيا. وقوله تعالى: {أفنجْعلُ المسلمين كالمجرمين} تقريرٌ لما قبلهُ من فوزِ المُتقين بجنّاتٍ النعيمِ، وردٌّ لما يقولهُ الكفرةُ عند سماعِهِم بحديث الآخرةِ وما وعد الله المسلمين فيها فإنهم كانُوا يقولون إنْ صحّ أنا نُبعثُ كما يزعمُ محمدٌ ومنْ معهُ لم يكُنْ حالُنا وحالُهُم إلا مثل ما هي في الدّنيا وإلا لم يزيدُوا علينا ولم يفضلونا وأقصى أمرِهِم أنْ يساوونا. والهمزةُ للإنكارِ والفاءُ للعطف على مقدرٍ يقتضيهِ المقامُ أي أنحيفُ في الحكمِ فنجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهُم بطريقِ الالتفاتِ لتأكيدِ الردِّ وتشديدِه {ما لكُمْ كيْف تحْكُمُون} تعجيبا من حُكمِهِم واستبعادا له وإيذانا بأنّه لا يصدرُ عن عاقلٍ {أمْ لكُمْ كتاب} نازلٌ من السماءِ {فِيهِ تدْرُسُون} أي تقرأون {إِنّ لكُمْ فِيهِ لما تخيّرُون} أي ما تتخيرونهُ وتشتهونهُ، وأصلُهُ أنّ لكُم بالفتحِ لأنّهُ مدروسٌ فلمّا جِيء باللامِ كُسرتْ ويجوزُ أنْ يكون حكاية للمدروسِ كما هُو كقوله تعالى: {وتركْنا عليْهِ في الأخرين سلام على نُوحٍ في العالمين} وتخيرُ الشيءِ واختيارُهُ أخذُ خيرِهِ {أمْ لكُمْ أيمان عليْنا} أي عهودٌ مؤكدةٌ بالأيمانِ {بالغة} متناهيةٌ في التوكيدِ. وقرئتْ بالنصبِ على الحالِ والعاملُ فيها أحدُ الظرفينِ {إلى يوْمِ القيامة} متعلقٌ بالمقدرِ في لكم أي ثابتةٌ لكُم إلى يومِ القيامةِ لا نخرجُ عن عُهدتِها حتى نحكمكم يومئذٍ ونعطيكُم ما تحكمون أو ببالغةٍ أي أيمانٌ تبلغُ ذلك اليوم وتنتهِي إليهِ وافرة لم تبطُلْ منها يمينٌ. {إِنّ لكُمْ لما تحْكُمُون} جوابُ القسمِ، لأنّ معنى {أمْ لكُم علينا أيمانٌ} أمْ أقسمنا لكُم.{سلْهُمْ} تلوينٌ للخطابِ وتوجيهٌ لهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطِهِم عن رُتبةِ الخطابِ أي سلهُم مُبكتا لهُمْ. {أيُّهُم بذلك} الحكمِ الخارجِ عن العقول {زعِيمٌ} أي قائمٌ يتصدّى لتصحيحِه {أمْ لهُمْ شُركاء} يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهُم. {فلْيأتُواْ بِشُركائِهِمْ إِن كانُواْ صادقين} في دعواهُم إذْ لا أقلّ من التقليدِ، وقد نبّه في هذِه الآياتِ الكريمةِ على أنْ ليس لهُم شيءٌ يُتوهمُ أنْ يتشبثُوا بهِ حتّى التقليدُ الذي لا يُفلِحُ من تشبث بذيلِه، وقيل المعْنى أمْ لهُم شركاءُ يجعلونهُم مثل المسلمين في الآخرةِ. {يوْم يُكْشفُ عن ساقٍ} أي يوم يشتدُّ الأمرُ ويصعبُ الخطبُ، وكشفُ الساقِ مثلٌ في ذلك وأصلُهُ تشميرُ المُخدّراتِ عن سُوقهِنّ في الهربِ، قال حاتمٌ:وقيل ساقُ الشيءِ أصلُهُ الذي بهِ قوامُه كساقِ الشجرِ وساقِ الإنسانِ، أيْ يوم يُكشفُ عن أصلِ الأمرِ فتظهرُ حقائقُ الأمورِ وأصولُها بحيثُ تصيرُ عيانا، وتنكيرُهُ للتهويلِ أو التعظيمِ. وقرئ {تكْشِفُ} بالتاءِ على البناءِ للفاعلِ والمفعولِ، والفعلُ للساعةِ أو الحالِ، وقرئ {نكْشِفُ} بالنونِ و{تُكْشِفُ} بالتاءِ المضمومةِ وكسرِ الشِّينِ من أكشف الأمرُ أي دخل في الكشفِ. وناصبُ الظرفِ {فليأتُوا}، أو مضمرٍ مقدمٍ أي اذْكُر يوم إلخ. أو مؤخرٍ أي يوم يكشفُ عن ساقٍ إلخ. يكونُ من الأهوالِ وعظائمِ الأحوالِ ما لا يبلغُه الوصفُ {ويُدْعوْن إِلى السجود} توبيخا وتعنيفا على تركهِم إيّاهُ في الدُّنيا وتحسيرا لهُم على تفريطِهِم في ذلك {فلا يسْتطِيعُون} لزوالِ القدرةِ عليهِ، وفيهِ دلالةٌ على أنّهُم يقصدون السجود فلا يتأتّى منهُم ذلك. عنِ ابنِ مسعُودٍ رضي الله عنْهُ تعقمُ أصلابُهُم أي تُردُّ عظاما بلا تفاصلٍ لا تنثني عند الرّفعِ والخفضِ. وفي الحديث «وتبقى أصلابُهُم طبقا واحِدا» أي فقارةٌ واحدةٌ {خاشعة أبصارهم} حالٌ من مرفوعِ {يُدعون}، على أنّ {أبصارهُم} مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ، ونسبةُ الخشوعِ إلى الأبصارِ لظهورِ أثرِهِ فيها {ترْهقُهُمْ} تلحقُهُم وتغشاهُم {ذِلّةٌ} شديدةٌ {وقدْ كانُواْ يُدْعوْن إِلى السجود} في الدُّنيا. والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ لزيادةِ التقريرِ، أو لأنّ المراد بهِ الصلاةُ أو ما فيها من السجودِ والدعوةُ دعوةُ التكليفِ. {وهُمْ سالمون} متمكنُون منْهُ أقوى تمكنٍ، أي فلا يُجيبون إليهِ ويأبونهُ وإنّما تُرك ذكرُه ثقة بظهورِهِ.{فذرْنِى ومن يُكذّبُ بهذا الحديث} أي كِلْهُ إليّ فإِنِّي أكفيك أمرهُ، أيْ حسبُك في الإيقاعِ بهِ والانتقام منهُ أنْ تكِل امرهُ إليّ وتُخلِّي بينِي وبينهُ، فإنِّي عالمٌ بما يستحقُّه من العذابِ، ومطيقٌ لهُ. والفاءُ لترتيبِ الأمرِ على ما قبلها من أحوالِهِم المحكيةِ أيْ وإذا كانِ حالُهُم في الآخرةِ كذلك فذرنِي ومن يكذِّبُ بهذا القرآن، وتوكلْ عليّ في الانتقامِ منْهُ. وقوله تعالى: {سنسْتدْرِجُهُم} استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيةِ التعذيبِ المُستفادِ من الأمرِ السابقِ إجمالا، والضميرُ لمنْ والجمعُ باعتبارِ معناها كما أنّ الإفراد في يكذِّبُ باعتبارِ لفظِها أي سنستنزِلُهُم إلى العذابِ درجة فدرجة بالإحسانِ وإدامةِ الصحةِ وازديادِ النعمةِ. {مّنْ حيْثُ لا يعْلمُون} أنه استدراجٌ وهو الإنعامُ عليهِم بلْ يزعمون أنه إيثارٌ لهُم وتفضيلٌ على المؤمنين مع أنّهُ سببٌ لهلاكِهِم.{وأُمْلِى لهُمْ} وأُمْهِلُهُم ليزدادُوا إِثما وهم يزعمون أنّ ذلك لإرادةِ الخيرِ بهِم. {إِنّ كيْدِى متِينٌ} لا يُوقفُ عليهِ ولا يُدفعُ بشيءٍ، وتسميةُ ذلك كيدا لكونِهِ في صورةِ الكيدِ {أمْ تسْئلُهُمْ} على الإبلاغِ والإرشادِ {أجْرا} دنيويا {فهُمُ} لأجلِ ذلك {مّن مّغْرمٍ} أي غرامةٍ ماليةٍ {مُّثْقلُون} مكلفون حملا ثقيلا فيُعرضون عنْك {أمْ عِندهُمُ الغيب} أي اللوحُ أو المغيباتُ {فهُمْ يكْتُبُون} منْهُ ما يحكمُون ويستغنُون بهِ عن علمِك {فاصبر لِحُكْمِ ربّك} وهو إمهالُهُم وتأخيرُ نصرتِك عليهِم {ولا تكُن كصاحب الحوت} أي يونسُ عليه السلام {إِذْ نادى} في بطنِ الحوتِ {وهُو مكْظُومٌ} مملوءٌ غيظا، والجملة حالٌ من ضميرِ {نادى} وعليها يدورُ النّهي على النداءِ فإنه أمرٌ مستحسنٌ ولذلك لم يُذكرِ المُنادى وإذْ منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ أي لا يكُن حالُك كحالِه وقت ندائِهِ أي لا يُوجدُ منك ما وُجد منْهُ من الضجرِ والمُغاضبةِ فتبتلى ببلائِهِ.{لّوْلا أن تداركهُ نِعْمةٌ مّن رّبّهِ} وقرئ درحمةٌ وهُو توفيقُهُ للتوبةِ وقبولُها منْهُ، وحسُن تذكيرُ الفعلِ للفصلِ بالضميرِ، وقرئ {تداركتْهُ} و{تداركُهُ} أي تتداركهُ على حكايةِ الحالِ الماضيةِ بمعْنى لولا أنْ كان يقال فيهِ تتداركه. {لنُبِذ بالعراء} بالأرضِ الخاليةِ من الأشجارِ {وهُو مذْمُومٌ} مُليمٌ مطرودٌ من الرحمةِ والكرامةِ، وهو حالٌ من مرفوعِ نُبذ عليها يعتمدُ جوابُ لولا لأنّها هي المنفيةُ لا النبذُ بالعراءِ كما مرّ في الحالِ الأُولى، والجملة الشرطيةُ استئنافٌ، وإنْ لبيانِ كونِ المنهيِّ عنْهُ أمرا محذورا مستتبعا للغائلةِ. وقوله تعالى: {فاجتباه ربُّهُ} عطف على مقدرٍ أي فتداركتْهُ نعمةٌ من ربِّه فاجتباهُ بأنْ ردّ إليهِ الوحي، وأرسلهُ إلى مائةِ ألفٍ أو يزيدون، وقيل استنبأهُ إنْ صحّ أنّه لم يكُنْ نبيا قبل هذهِ الواقعةِ {فجعلهُ مِن الصالحين} من الكاملين في الصلاحِ بأنْ عصمهُ منْ أنْ يفعل فعلا يكونُ تركُهُ أوْلى. رُوِي أنّها نزلتْ بأُحُدٍ حين همّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين من المؤمنين، وقيل حين أراد أنْ يدعو على ثقيفٍ.{وإِن يكادُ الذين كفرُواْ ليُزْلِقُونك بأبصارهم}وقرئ {ليزلقونك} بفتحِ الياءِ من زلقه بمعنى أزْلقه و{يُزهقونك}. و{إنْ} هي المخففةُ واللامُ دليلُها والمعْنى أنّهم من شدّةِ عداوتِهِم لك ينظرون إليك شزْرا بحيثُ يكادون يُزلّون قدمك فيرمونك، من قولهِم نظرا يكادُ يصرعُنِي، أي لو أمكنهُ بنظرِهِ الصرعُ لفعلهُ أو أنّهُم يكادون يُصيبونك بالعينِ إذ قد رُوِي أنّهُ كان في بني أسدٍ عيّانون فأراد بعضُهُم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلتْ. وفي الحديث: «إنّ العين لتُدخلُ الرجل القبر والجمل القدر» ولعله من خصائصِ بعضِ النفوسِ، وعن الحسنِ. دواءُ الإصابةِ بالعينِ أنْ تقرأ هذِه الآية: {لمّا سمِعُواْ الذكر} أي وقت سماعِهِم بالقرآن على أنّ لمّا ظرفيةٌ منصوبةٌ بـ: {يُزلقونك} وذلك لاشتدادِ بُغضِهِم وحسدِهِم عند سماعِهِ. {ويقولون} لغايةِ حيرتِهِم في أمرِهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ ونهايةِ جهلِهِم بما في تضاعيفِ القرآن من تعاجيبِ الحِكمِ وبدائعِ العلومِ المحجوبةِ عن العقول المُنغمسةِ بأحكامِ الطبائعِ ولتنفيرِ النّاسِ عنْهُ {إِنّهُ لمجْنُونٌ} وحيثُ كانُ مدارُ حُكمِهِم الباطلِ ما سمعُوه منهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ ردّ ذلك ببيانِ عُلوِّ شأنةِ وسطوعِ بُرهانِهِ فقيلِ: {وما هُو إِلاّ ذِكْرٌ لّلْعالمِين} على أنّه حالٌ من فاعل يقولون مفيذةٌ لغايةِ بُطلانِ قولهِم وتعجيبِ السامعين من جرأتِهِم على تفوهِ تلك العظيمةِ أي يقولون ذلك والحالُ أنّه ذكرٌ للعالمين، أي تذكيرٌ وبيانٌ لجميعِ ما يحتاجون إليهِ من أمورِ دينِهِم فأين منْ أنزل عليهِ ذلك وهو مُطلعٌ على أسرارِهِ طُرّا ومحيطٌ بجميعِ حقائِقِه خُبرا ممّا قالوا، وقيل معناهُ شرفٌ وفضلٌ، لقوله تعالى: {وإِنّهُ لذِكْرٌ لّك ولِقوْمِك} وقيل الضميرُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكونُه مذكِرا وشرفا للعالمين لا ريب فيهِ. اهـ.
|